“ليبيا و”طغيان الأقلية

31/03/2015

 وحتى لا تنقلب الديمقراطية الوليدة في ليبيا إلى تأييد مزيف لحكم إسلاموي مستبد، ينبغي على رجال ليبيا ونساءها الشجعان، ومن خلفهم المجتمع الدولي، أن يجهروا بكلمة (لا) في وجه .طغيان تلك الأقلية واستبدادها وظلمها المتواصل للشعب الليبي

لطالما حذر كبار دعاة الديمقراطية والمدافعين عنها بدايةً من (جون أدامز) مرورًا ب(اليكسس دو توكفيل) ووصولاً إلى (جون ستيوارت مل)؛ حذروا جميعاً من أخطار ما اُصطُلِح على تسميتهِ ب«طغيان الأغلبية» وكيف أن ذلك يهدد ويقوض روح الديمقراطية.

وعلى مدى السنوات الأربع الماضية، عانت ليبيا، ولاتزال تعاني – هذه المرة في ظل رعاية الأمم المتحدة – من الإفرازات الكارثية ل«طغيان الأقلية» ودمويتها.
لقد لاحظنا أن «الأقلية» المتمثلة في تيار الإسلام السياسي والمكونة من (جماعة الإخوان المسلمين) و(الجماعة الإسلامية المقاتلة) وحلفائهم لم يحصلوا، في أحسن الأحوال، على أكثر من عشرة بالمئة (10%) من أصوات الناخبين الليبيين في ثلاثة انتخابات حرة ونزيهة ومُرَاقَبَة على الرغم من حجم التحشيد، والتعبئة السياسية التي قاموا بها، والتي فاقت بمراحل الجهود التي بذلها منافسوهم من المستقلين والتيارات السياسية الأخرى.

ومع ذلك، فإن هذه الأقلية الصغيرة – ومن خلال مزيج من العنف وانعدام الضمير والتهديد والوعيد والابتزاز والرشوة – انتشرت كالطفيليات في مفاصل الدولة الليبية الناشئة، وتمكنت من الاستحواذ على مقدراتها ومواردها، واضطهاد وترويع الشعب الليبي طوال السنوات الأربع الماضية.
وفي صيف عام 2014، قام تحالف من ميليشيات إسلاموية أُطلِقَ عليه اسم «فجر ليبيا» بالإستيلاء على طرابلس بقوة السلاح على خلفية تراجع تأييد الشعب الليبي لمرشحيهم في الانتخابات من جهة، ولشعورهم بالخيبة نتيجة لتمكن مجلس النواب المنتخب من الإنتقال إلى مدينة طبرق الخالية من العنف واتخاذها مقراً مؤقتاً لممارسة مهامه، من جهةٍ أخرى.

وبهدف اضفاء شرعية زائفة على ممارساتها الإجرامية، قامت ميليشيات مايُسَمَى ب«فجر ليبيا» بإحياء المؤتمر الوطني العام المنتهية ولايته؛ بنسبة حضور ومشاركة ضئيلة من أعضاءه السابقين، وتعيين حكومة غير شرعية استحوذ على حقائبها المزيفة جهاديون سابقون وأنصار لتنظيم «داعش» الإرهابي.
وفي المغرب، لم تتورع هذه الشريحة الضئيلة عن التحدث بإسم «المؤتمر الوطني العام» المنحل، والإلحاح الغريب على «شرعية» مزعومة؛ بل ووصلت بها الصفاقة إلى حد المطالبة بالتمثيل في «مجلسٍ رئاسي» بالمناصفة!

وحتى لو افترضنا أنه بمقدور كائنٍ من كان منح هذه الامتيازات غير المُسْتَحَقَة، فالمنطق يُحَتِّم أن تُمْنَح إلى المؤتمر الوطني العام ككل وبجميع أعضاءه؛ وليس لأقلية لا تُذكَر فيه؛ فالأعضاء الممثلين لتيار الإسلام السياسي يشكلون أقل من 10% من مجموع الأعضاء؛ ولذا، وتحت تأثير اختطافهم للمؤتمر الوطني العام، قاموا بتضخيم مطالبهم في أية تسوية مُقتَرَحَة، وتهويل «حجمهم» المزعوم إلى نسبة تعادل عشرة أضعاف حجمهم الحقيقي؛ أي من 5% إلى 50%.

والمثير للدهشة والغرابة أن نجد هؤلاء الإسلامويين الذين لم يفوزوا ولو بمقعدٍ واحد في دوائرهم، والذين لايمثلون نسبة تُذكَر على الساحة السياسية في ليبيا؛ نجدهم قد جلسوا الى طاولة «الحوار» في الجزائر وكأنهم يمثلون نصف المشهد السياسي الليبي!

وحتى لا تنقلب الديمقراطية الوليدة في ليبيا إلى تأييد مزيف لحكم إسلاموي مستبد، ينبغي على رجال ليبيا ونساءها الشجعان، ومن خلفهم المجتمع الدولي، أن يجهروا بكلمة (لا) في وجه طغيان تلك الأقلية واستبدادها وظلمها المتواصل للشعب الليبي.

إن المجتمع الدولي يطالب بسرعة تشكيل «حكومة وحدة وطنية»، مع أن ليبيا شهدت «حكومات وحدة وطنية» على مدى الأربعة أعوام الماضية منذ ثورة 17 فبراير؛ حيث «شملت» تلك الحكومات الفصائل الرئيسية التي استمدت «شرعيتها» المزعومة من مشاركتها في انتفاضة 2011. بيد أن هذه الفصائل، والتي تشكلت خلال القتال ضد القذافي، لا تمثل الناخبين الليبيين.

لقد أخفقت الحكومات المتعاقبة على مدى الأربع سنوات الماضية وذلك لسببين، أولهما: أنها استلمت ليبيا خالية من أية مؤسسات؛ وثانيهما: أن نتائج الانتخابات لم تتسق وقواعد السلطة المنحرفة عن مسارها الصحيح.
ومما تقدم يمكن تشبيه الحكومات في ليبيا بمن يمسك بعجلة قيادة سيارة بدون محرك؛ بمعنى أن النتائج الرسمية للانتخابات، وسياسات البرلمانات ورؤساء الوزراء، لم تعكس أبدًا السياسات الفعلية للميليشيات؛ حيث تمكنت هذه المليشيات من السيطرة على السياسات البرلمانية ووضعها تحت الإكراه من خلال التهديدات، وأخذ الرهائن، والاغتيالات، وممارسة الابتزاز.

لقد تم وضعنا في مأزقٍ خطير؛ فعلى الرغم من أن المفاوضات الليبية الجارية حالياً ليست محادثات سلام بين أطراف متحاربة، إلا أن البعض يريدها أن تكون كذلك؛ كما أنها ليست محادثات للمساعدة في التوصل إلى تسوية لخلافات بين سياسيين منتخبين، رغم أن هذا كان الغرض منها منذ البداية. وفي هذا الصدد، لابد من الإنتباه إلى أن ثمة مخاطرة كبرى قد تنجم عن المحادثات المختلطة الحالية حيث يمكن استغلالها لتوفير شرعية قانونية للإبتزاز، ومباركة ديمومة «طغيان الأقلية».

لقد كان الهدف من الحوار الذي ترعاه الأمم المتحدة واضحًا؛ ألا وهو معالجة شكاوى الأعضاء المقاطعين لجلسات مجلس النواب الليبي في طبرق واقناعهم بالعدول عن مقاطعتهم، كما أن الهدف من محادثات السلام هو بنفس الوضوح أيضاً؛ ويتمثل في وضع حد للإقتتال. ومن المُسَلَّم به أن يُمَثِّل المشاركون، في جميع محادثات السلام المُتَعَارَف عليها، الأطراف المتحاربة، وأن جميع الأطراف تستخدم قوتها على الأرض لدفع تلك المحادثات باتجاه تحقيق مصالحها.

وقبل أن تشرف الأمم المتحدة على تشكيل حكومة تمتد ولايتها لعامين قادمين ينبغي أن نكون على بينة ودراية بما يحدث، وأن نضع في اعتبارنا ألا ننتكس إلى حكومة تُعيد السنوات الأربعة العجاف الماضية من الطغيان والتشتت والفوضى. ومن خلال الترحيب بإضفاء الشرعية على المجاميع المسلحة في هذه العملية تحت ستار الوحدة الوطنية والمصالحة، فإن المحادثات الحالية تشرعن رفع السلاح ضد مخرجات صناديق الاقتراع.

انّ ليبيا ليست في وضعٍ يسمح لها أن تتحمل «حكومة وحدة وطنية» تشوه النسيج الاجتماعي للبلاد، وتكافئ رعاة العنف والمحرضين عليه بمنصب «رئيس الوزراء» أو «رئيس الدولة»؛ فهذا ليس حلاً للإستقرار؛ وليس حلاً لإنهاء الصراع؛ بل هذه وصفة لتكريس حكم أمراء الحرب وميليشيات القاعدة كمستقبل لليبيا. وعليه، فقد يستمر طغيان الأقلية بشكلٍ فعّال، ولكن هذه المرة بمباركة من المجتمع الدولي.

انّ ليبيا بحاجة ماسة إلى تصحيح مسار تحولها الديمقراطي، ومحاربة ارهاب تنظيم «داعش» وحلفاءه ومناصريه. وللقيام بذلك، ينبغي على الدول التي شاركت في التدخل عام 2011، ولازالت تقوم بدورٍ هام في البلاد أن تتفهم أن «حكومة الوحدة الوطنية» التي لا تمثل الشعب الليبي لا تُعَد حلاً لإنهاء الصراع في ليبيا، وأن مجرد إجراء حوار بين السياسيين ليس بديلاً عن إجراء محادثات سلام حقيقية بين الفصائل المتحاربة.
وينبغي التأكيد على أن الفصائل الإسلاموية، التي سيطرت على ليبيا بقوة السلاح وتدعي الآن شرعية مزعومة، لا تمثل سوى أقل من 10% من ناخبي ليبيا، ناهيك عن أنها لم تفز أبداً في أية انتخابات حرة ونزيهة، ولا تمثل أو تعبر عن مكونات الشعب الليبي.

كما أن الأمم المتحدة ستناقض السياسات القانونية التي تنتهجها اذا قامت بدعم وفد يضم أعضاءاً من ميليشيات «فجر ليبيا»؛ حيث أن فريق الخبراء التابع للأمم المتحدة قد خَلُصَ في تقريرهِ المنشور على موقع المنظمة الدولية إلى تحميل ميليشيات «فجر ليبيا» المسؤولية عن انهيار العملية السياسية في ليبيا.

لقد دفع الشعب الليبي ثمناً باهظاً للتغلب على استبداد رجل واحد؛ لكنه دَفَعَ، ويدفع الآن، ثمناً أكبر، وقَدَمَ، ولازال يقدم، التضحيات الجِسَام في الأرواح والممتلكات والمقدرات على مدى السنوات الأربع الماضية تحت نير الإستبداد الذي تمارسه «الأقلية الإسلاموية»؛ ولذا فإن هذا الشعب العظيم لا يستحق أن يُحْكَم عامين آخرين في ظِل هذا الطغيان والاستبداد تحت يافطة «حكومة الوحدة الوطنية» ؛ وهذه المرة بمباركة من الأمم المتحدة.